عمليات تركيا العسكرية- أهداف تتجاوز الثأر وتطمح لأمن قومي مستدام

المؤلف: صالحة علام11.20.2025
عمليات تركيا العسكرية- أهداف تتجاوز الثأر وتطمح لأمن قومي مستدام

في خضم صمت عالمي وإقليمي مهيب، صعّدت تركيا في الآونة الأخيرة وتيرة عملياتها العسكرية المتزايدة الحدة في الشمال السوري والعراقي، مستهدفةً وحدات حماية الشعب الكردية (قسد) وحزب العمال الكردستاني. تهدف هذه العمليات إلى تدمير مخازن الأسلحة التابعة لهذه الجماعات، ومحاصرة معسكراتهم، واقتحام الكهوف التي يتحصنون بداخلها، فضلاً عن استهداف المنشآت النفطية التي تخضع لسيطرتهم، والتي تعتبر شريانًا حيويًا لتمويل عملياتهم التي تزعزع الاستقرار وتهدد الأمن القومي التركي، بما في ذلك الهجمات المتكررة على أفراد القوات المسلحة التركية المتمركزة في المنطقة.

ردّ سريع

تُعد هذه العمليات ردًا سريعًا وحاسمًا من جانب أنقرة على استهداف عناصر حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية، بالإضافة إلى ذراعها الممتد داخل الشمال السوري، أي وحدات حماية الشعب الكردية، لمواقع ارتكاز الجنود الأتراك. وقد أسفرت هذه الاعتداءات عن إصابات بليغة في صفوف الجنود الأتراك، وراح ضحيتها اثنا عشر جنديًا، الأمر الذي دفع المسؤولين الأتراك إلى التصريح بأن بلادهم تمتلك كامل الحق السيادي في الحفاظ على أمن حدودها، واتخاذ جميع التدابير الضرورية لمواجهة التهديدات والمخاطر المحدقة بها.

وتؤكد أنقرة أن عملياتها العسكرية تتوافق بشكل كامل مع بنود القانون الدولي، وتلتزم بمبدأ حق الدفاع عن النفس المشروع، وأنها ستستمر بلا هوادة حتى تحقق الأهداف المنشودة، وتقضي بشكل كامل على جميع العناصر الإرهابية المتواجدة على طول حدودها المشتركة مع سوريا والعراق. وتشدد تركيا على أن هذه العمليات العسكرية تأتي في سياق التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب، ولا تستهدف على الإطلاق المساس بسيادة الدولتين الجارتين.

عمليات عسكرية مكثفة

من المنطقي والطبيعي أن تبدي تركيا الرسمية رد فعل قويًا يتناسب مع مكانتها كدولة ذات سيادة، ويتماشى مع حجم الاعتداءات التي تعرض لها جنودها. ومع ذلك، فإن الإصرار على توسيع نطاق العمليات العسكرية، والتوغل في مناطق لم تكن مستهدفة في السابق، والحديث المتكرر عن الاستمرار في هذه العمليات، يشير بوضوح إلى أن الأهداف التي تسعى تركيا إلى تحقيقها تتجاوز مجرد الثأر لجنودها الذين سقطوا ضحايا للعناصر المسلحة التي تصنفها أنقرة كإرهابيين.

من بين الأهداف المحتملة التي تسعى أنقرة إلى تحقيقها في الوقت الراهن، استغلال حالة الصمت التي تكتنف عملياتها العسكرية لقطع جميع الطرق والممرات التي تمثل شرايين التواصل بين قيادات حزب العمال الكردستاني المتمركزة في الشمال العراقي، ونظرائهم في المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال السوري. ويهدف هذا الإجراء إلى منع أي تحرك يستهدف إعلان حكم ذاتي كردي في الشمال السوري، على غرار ما حدث في شمال العراق بدعم ورعاية كاملين من الولايات المتحدة الأميركية.

تمثل هذه الخطوة تحركًا استباقيًا، يأتي كرد فعل على انعقاد المؤتمر الرابع للإدارة الذاتية التابعة لقسد، الذي عُقد في العشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي تحت عنوان: "وحدة السوريين ديمقراطية تعددية لا مركزية"، وإصدارها وثيقة بعنوان "عقد اجتماعي" استخدمت فيها مصطلحات كشفت عن نواياها وخططها المستقبلية، حيث تم استخدام كلمة "إقليم" للإشارة إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها.

يبدو أن هذا الأمر قد أثار قلق المسؤولين الأتراك، ودفعهم إلى وضع استراتيجية جديدة مغايرة لما تم اعتماده سابقًا، وذلك لمواجهة الخطر المحتمل الذي استشعروه، على الرغم من قيام قسد بإجراء تغييرات هيكلية في عناصرها القيادية بالمناطق الخاضعة لنفوذها، واستبعادها عددًا من العناصر المتشددة والمثيرة للجدل، بهدف طمأنة تركيا بأن مشروعها السياسي للمنطقة لن يمثل لها تهديدًا يُذكر.

إلا أن وصف مناطق نفوذها بـ "الإقليم"، والحديث عن "التعددية" تحديدًا، فتح الباب واسعًا أمام احتمالية أن يكون ذلك هو بداية التحرك الفعلي نحو التجهيز لإعلان حكم ذاتي لها في المنطقة، وهو ما تعتبره أنقرة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، الأمر الذي دفعها لتوظيف الهجوم على جنودها لتوجيه ضربة عسكرية قاصمة تقضي من خلالها على المنشآت الحيوية والبنية التحتية التي يمكن أن تكون أساسًا لإعلان منطقة حكم ذاتي بعيدًا عن مركزية الدولة السورية في دمشق.

طرد عناصر قسد من المناطق الحدودية

يمثل إخراج العناصر المسلحة المتمركزة في المناطق الحدودية التركية – السورية هدفًا رئيسيًا تسعى إليه القيادة السياسية التركية من خلال عملياتها العسكرية المتكررة في المنطقة؛ وذلك لتأمين حدودها بشكل كامل من جهة، ولإفساح المجال أمام تنفيذ خطتها الطموحة الرامية لتشكيل منطقة آمنة بعمق ثلاثين كيلومترًا مربعًا داخل الأراضي السورية، بهدف استيعاب مليوني لاجئ سوري، والقضاء على مشكلة تواجدهم بأعداد كبيرة على أراضيها، الأمر الذي أصبح يمثل لها عبئًا سياسيًا واجتماعيًا متزايدًا بعد أن تم استغلاله ضدها من جانب أحزاب المعارضة في جميع الاستحقاقات الانتخابية، وأدى إلى ظهور حالة من العداء والعنصرية في الشارع التركي ضد كل ما هو أجنبي.

اللافت في العملية العسكرية الأخيرة اتساع نطاقها الجغرافي، حيث تمتد لتشمل مناطق عين العرب والحسكة والرقة وتل رفعت ومنبج، إلى جانب استهداف بنيتها التحتية ومنشآتها الحيوية، وخاصة مناطق حقول النفط التي يسيطر عليها المسلحون الأكراد، وذلك بهدف ضمان وقف مصدر تمويلهم الرئيسي، الذي يضمن لهم استمرار عملياتهم المزعزعة للاستقرار ضد الدولة التركية.

اتفاق تركي – أميركي

لطالما حرصت تركيا على عدم التعرض لهذه المناطق بسبب وجود جنود من مشاة البحرية الأميركية فيها، لكن استهدافها مؤخرًا دون صدور أي رد فعل أو احتجاج من جانب الإدارة الأميركية، يشير إلى احتمالية وجود تفاهمات ضمنية واتفاقات غير معلنة بين أنقرة وواشنطن في أعقاب العمليات الإرهابية التي تعرضت لها تركيا، تقضي بتغاضي الولايات المتحدة عما تقوم به تركيا من عمليات مقابل الاتفاق على عدد من الملفات والقضايا العالقة بينهما.

تشمل هذه الملفات انضمام السويد إلى حلف الناتو، حيث صادق البرلمان التركي أخيرًا على قبول عضويتها في الحلف بعد مفاوضات مضنية وطويلة امتدت لشهور، بالإضافة إلى ملفّي الحرب على غزة، والحرب الروسية – الأوكرانية، والعلاقات التركية – الإيرانية، وقضية شرق المتوسط.

مصالح سياسية

وبالنظر إلى أن المصالح هي المحرك الدائم للسياسات والمواقف الدولية، فليس من المستغرب أن روسيا وإيران لم تعارضا الإجراءات التركية، ولم تبديا أي استياء أو رفض للتحرك التركي. فقد نجحت روسيا بالتعاون مع تركيا في إدخال قوات من الجيش العربي السوري إلى عدد من المناطق في شمال شرق سوريا، الأمر الذي عزز وجود النظام في مناطق لم تكن خاضعة لسيطرته، ومنح تركيا الأمل في إمكانية التعاون مع دمشق في المستقبل لإعادة بسط سيطرتها على المناطق الواقعة تحت نفوذ قسد، وإخراجها منها، وبالتالي تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة.

بينما ترى إيران أن قسد هي إحدى الأدوات التابعة للإدارة الأميركية في المنطقة، والتي يجب استئصالها والقضاء عليها. وتتفق إيران مع المخاوف الأمنية التي يثيرها المسؤولون الأتراك، مما يشير إلى أن تركيا لديها فرصة تاريخية لتحقيق أهدافها، وضمان وحدتها الترابية، والحفاظ على أمنها القومي، إذا أحسنت استغلال هذه الفرصة.

 

 

 

 

 

 

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة